وكنت أريد أن أقول: إني أخشى أني صرتُ حماراً وحشياً، فأنا شبه أبكم، أتكلم بالإشارة في المنفى، المنفى ينفي، يعدم، وكان النفي عقوبة في الشريعة الإسلامية، فصار على أيام الطغاة مكافأة وفردوساً، وأمسى السوري يعبر الأنهار والبحار، كما تعبر أسماك السلمون عكس التيار، وكما تعبر قطعان النّو الأنهار الملغومة بالتماسيح. يريد أن يعبر إلى جهة يتعلم فيها فنَّ النطق، وأنه ثار من أجل النعمة التي فضل بها الله الإنسان على الحيوان، وكنت أريد أن أحكي وأبوح، وأقف على الأطلال، أن أهمل القصة، لأنها صارت قديمة، وتفوح منها رائحة حمار ميت، وأحكي قصتي، ثم هطل المطر، فهرب من هرب من المستمعين إلى وقاية المظلات، وبقيت تحت المطر، والمطر عندي يعني الرحمة، وتذكرتُ موسى عليه السلام، وكان قد عاش عيشة ملكية في كنف فرعون، في القصر "الجمهوري"، ثم قتل خطأ قبطياً، فهرب إلى مدين، وهربتُ مثله، وله المثل الأعلى، ولم أكن قد قتلتُ أحداً، بل إن أهلي قُتلوا، ودُمّر بيتي بالبراميل... سعدتُ بالمطر، وتذكرتُ دعاءه : (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْـزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ). عندما يهطل المطر، أفرح به وكأني مشرف على الموت من العطش، وأشتهي أن أجري تحته من غير طائرة ورقية.
وكنت أريد أن أقول أشياء كثيرة، وأتذكر لهم عصفور ميشيل كيلو، والطفل الذي ولدته أمه في السجن، والذي لا يعرف ما العصفور، وما الشجرة، وأقول لهم: إن جيلاً سورياً كاملاً لم يعد يعرف ما النار، سوى التي يحترق بها، ويريد اكتشافها من جديد، وما الماء، سوى التي يغرق فيها ... وأقول: إن السوريّ أصبح أعجم، لا يبين، ويتكلم بالإشارة، ونسي الأبجدية، وهو الذي يعزو المؤرخون إليه اختراعها في أوغاريت ورأس شمرا.
وانتهيت من قراءة القصة، وكنا قد اتفقنا على أن أسرد القصة فلذةً فلذة لكني نسيت، (وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ)، فتلوتُها بأسرها، وكنتُ قد ركنتُ إلى وعود دولية تمساحية، بأنّ السلاح الكيماوي خط أحمر، وأن البدر سيطلع علينا من ثنيات الوداع، وبعد أن انتهيت، ولفظتُ أنفاس القصة الأخيرة، تقدمتْ السيدة غابرييل، وعانقتني، فغفلت عنها، وما أنا بالذي يغفل عن عناق امرأة، فقد كنت مشغولاً بأحشائي التي تتدلى مثل الثريا والقناديل وعقود الزينة.
وكانت الكنيسة القريبة قد تذكرت أحزان المسيح إبّان صلبه.
فبدأتْ النواقيس الحزينة تذرفُ دموعها الحديدية ذات الرنين.
من ثنيات الوداع.
وكنت أريد أن أقول: أيها الألمان لقد رمتكم سوريا بفلذات أكبادها ...
"قِفَا نَبْكِ" على جدار البوندستاغ
كانت أغرب معركة نازحين في ألمانيا المحتلة، سميت يوم المعركة، يوم " الجاعرتين" أسوة بأيام العرب مثل: تِحلاق اللمم، ويوم الفجار، ويوم ذي قار...
كنت كل يوم أحمل حقيبتي على ظهري، وفيها كتب وأدوات مدرسية، وأقلام كثيرة، وفطيرة وزجاجة ماء مثل براعم المستقبل، قاصداً مدرسة تعليم لغة الأشغال الشاقة.
تقع المدرسة الألمانية، في شارع "أوبل شتراسه"، (بسِقطِ اللِّوى بينَ الدَّخول فحَوْملِ)، أصل متأخرا ً كالعادة، فلا عقاب للطالب بالوقوف على قدم واحدة رافعاً اليدين جزاءاً نكالاً على التأخير، وما إن أجلس حتى أغيب عن الوعي مثل جيك سولي الذي كان يتحول إلى الكائن الأفاتاري في فلم آفاتار، فأقضي أربع ساعات سارحا في مدن زرقاء ووردية، مسحورا بخميرة الذكريات. يوقظني زميلي الشامي معتز: انتهت الرحلة عمو، وحان موعد غنيمة الإياب. صار لقبي عمو عند الحلبي، عميم عند الحمصي، وخالو عند الكردي..